تأويل ابن الجوزي لمعنى التردد في حديث الولي
قال: (وعبر ابن الجوزي عن الثاني بأن التردد للملائكة الذين يقبضون الروح، وأضاف الحق ذلك لنفسه؛ لأن ترددهم عن أمره. قال: وهذا التردد ينشأ عن إظهار الكراهة، فإن قيل: إذا أمر الله بالقبض فكيف يقع منه التردد؟ فالجواب: أنه يتردد فيما لم يحد له فيه الوقت، كأن يقال: لا تقبض روحه إلا إذا رضي، ثم ذكر جواباً ثالثاً: وهو احتمال أن يكون معنى التردد: اللطف به، كأن الملك يؤخر القبض).وخلاصة كلام ابن الجوزي : أن التردد بالنسبة للملائكة الموكلين بقبض الأرواح، والله تعالى أضاف التردد لنفسه، قال: لأنهم جنده وملائكته وبأمره يفعلون، فهو يقول: (وما ترددت) أي: وما ترددت ملائكتي، فهذا مختصر تأويل ابن الجوزي ، وتتردد الملائكة؛ لأنهم يعلمون أن الله يحبه، وأن له عند الله كرامة، وأن له عند الله منزلة، ومع ذلك فهم مأمورون أن يقبضوا روحه فيترددون، وكل هذا حتى يفر من نسبته إلى الله تعالى. ثم يقول: فإذا قيل: الله تعالى أمر الملك بالقبض، فكيف يقع منه التردد؟ أي: إذا أمر الله تعالى الملائكة أن تقبض روحه، فلماذا تتردد وقد أمرها الله؟ فيقول: عدة أجوبة: الأول: أنه يتردد فيما لم يحد له فيه وقت، أي: أنه يقول: اقبض روح عبدي فلان ولم يحد له وقتاً، فيتردد متى يقبضه أو كيف يقبضه؟ أما لو حدد الساعة فإنه ينفذ ولا يبالي، وهذا احتمال. الاحتمال الثاني: أن يقول له: لا تقبض روحه حتى يرضى، وكأنه أعطاه أمراً مطلقاً، وعلى هذا نرجع إلى القول السابق، أي: كأن الملائكة تنتظر فلا تقبض روحه حتى يشتاق إلى لقاء الله، ويرضى بأن يموت، فيأتيه الموت وهو غير كاره له، فلا يقع ما يسوءه ويضايقه ويكرهه. قال الحافظ: (ثم ذكر جواباً ثالثاً فقال: احتمال أن يكون معنى التردد اللطف به، كأن الملك يؤخر القبض، فإنه إذا نظر إلى قدر المؤمن وعظم المنفعة به لأهل الدنيا احترمه، فلم يبسط يده إليه، فإذا ذكر أمر ربه لم يجد بداً من امتثاله). أي: فالملك يقول: هذا عبدٌ مؤمن له قدر عظيم واحترام وكذا، ويتهيب أن يقبض روحه، ومن ناحية أخرى يعلم أن الله قد أمره أن يقبض روحه، فلابد لي منه، فيقع منه التردد.أيضاً ذكر جواباً رابعاً فقال: (أن يكون هذا خطاباً لنا بما نعقل، والرب منزه عن حقيقته). وبالتالي فما هي الحقيقة؟ هل الحقيقة تستلزم النقص؟ لا يوجد فيها نقص، وهذا الذي نريد دائماً أن نقوله، فلا يمكن أن يأتي شيء من الأحاديث أو الآيات من باب أولى في الصفات، وفيها إثبات نقص أو خلل أو أي شيء لا يليق بالله عز وجل، المهم أن كل ما يأتي في النصوص فهو يثبت لله تبارك وتعالى الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه.يقول: (فهو من جنس قوله: ( من أتاني يمشي أتيته هرولة )، فكما أن أحدنا يريد أن يضرب ولده تأديباً، وتمنعه المحبة وتبعثه الشفقة فيتردد بينهما -وهذا مثال جيد- ولو كان غير الوالد كالمعلم لم يتردد، بل كان يبادر إلى ضربه لتأديبه، فأريد تفهيمنا تحقيق المحبة للولي بذكر التردد)، وهذا الكلام هو الواقع، ولله المثل الأعلى، فالمثال هذا قريب من تفسير الحديث، فابنك أنت تحبه، لكن لا نقول: اضربه؛ لأن الضرب أذى، ومثال أوضح: هذا الابن لابد أن يدخل المدرسة، أو تحفيظ القرآن وهو يكره المسجد، يكره أن يذهب إلى التحفيظ؛ لأنه يحب اللعب، وأنت تحب ابنك حباً شديداً، ولابد لك أن تدخله للتحفيظ، وهو يكره ذلك، وأنت تكره مساءته، وهو يكره ذلك، لكن لابد لك من أمر من الأمور فتفعل، وهذا مقتضى المحبة، إذ إن مقتضاها الإكرام والعلم بالمصلحة؛ لأنك تعلم أن مصلحة ابنك ليس أن تحبه فيبقى في البيت، بل تحبه فيحفظ القرآن، ولله المثل الأعلى، فالله تبارك وتعالى عندما يصف نفسه بالتردد، أو يسند ذلك إليه لإظهار أنه يحب عبده المؤمن، فهذا حق، لكن هل هذا مما يعاب أو يذم؟ وهل فيه نقص؟ لو جئت إلى أحد الآباء فقلت له: لماذا تتردد في ولدك؟ يقول: أنا أحب الولد، ولا أريد أن أغضبه، وفي نفس الوقت لابد أن يتعلم، فأدخلته التحفيظ وهو كاره، فهل هذه صفة نقص أو كمال؟ صفة كمال في الأب وهو مخلوق، وأي صفة كمال في المخلوق فالله تبارك وتعالى أحق بها وأولى، وبالتالي يكون التردد نقصاً أو عيباً إذا كان المتردد لا يدري أي الأمرين خير، لا يدري عاقبة الأمرين، وهذا في حق البشر، أما الله تبارك وتعالى فهو يعلم الغيب، يعلم ما كان وما سيكون، فلا يتعارض عنده تبارك وتعالى أمران بهذا المفهوم أبداً، فالبشر أنفسهم إذا تردد أحدهم في أمرين يقول: لا أدري أدخل ولدي في هذا المجال، أو في هذا المجال، فهو متردد محتار، فيذهب يستشير؛ لأنه لا يعلم العاقبة والمصلحة؛ لأنه مخلوق لا يعلم الغيب، وهذا بهذا المعنى نقص في حق الله، أما المخلوق فهو بطبيعته ناقص، وبهذا المعنى لا يثبت لله تبارك وتعالى أبداً، أما من يعلم العاقبة وإنما تعارض أو أظهر أن الأمرين لديه متعارضان، جعل إكرامه لوليه كأنه مساوياً، وهو ليس مساوياً في الحقيقة، ولهذا قال: ولا بد له منه، فهو ليس مساوياً، لكنه جعله كالمساوي لقدره الذي لا بد منه؛ إظهاراً منه لمحبته ولكرامته عليه، فهذا ليس فيه نقص، بل فيه إظهار صفة من صفاته تبارك وتعالى، وهو لطفه وكرمه وتفضله على عبده، وإظهار قيمة هذا العبد ودرجته عنده.